روائع مختارة | روضة الدعاة | السيرة النبوية | الهجرة.. دروس وعبر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > السيرة النبوية > الهجرة.. دروس وعبر


  الهجرة.. دروس وعبر
     عدد مرات المشاهدة: 2925        عدد مرات الإرسال: 0

إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصَحْبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعدُ:

فاتقوا الله عباد الله؛ فإنَّ التقوى رأْسُ العمل الصالح، وهي المتجر الرابح، فتزوَّدوا بها ما استطعتُم، واستغفروا لذنوبكم ما أسررْتُم منها وما أعلنتم.

إخوة الإيمان، نقفُ وإيَّاكم اليوم مع حَدَثٍ مُهمٍّ، أشرْنا إليه إشارة سريعة في الخطبة الماضية، وهو موضوعنا اليوم، إنَّه حَدَثُ الهجرة؛ هجرة الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم- من مكة إلى المدينة، تلك الهجرة التي خَلقتِ المسلمين خَلقًا جديدًا، فحوَّلتْ ضَعفَهم إلى قوَّة، وقِلَّتهم إلى كَثْرة، وذِلَّتهم إلى عِزَّة.

عباد الله، لقد عاشَ رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- في مكة ثلاثة عشر عامًا يدْعو قَوْمه إلى كلمة "لا إله إلا الله"، فما آمَنَ به إلا قليلٌ من الناس، ولكنَّهم قِلَّة صادقة خالَطَ الإيمان بشاشةَ قلوبهم، هذا الإيمان هو الذي دَفَع الصحابة إلى العبادة والرِّيادة، وجَعَلهم يجاهدون ويستشهدون، إلى أنْ دانتْ لهم الدنيا كلُّها، لَم يكنْ هذا إلا بسبب الإيمان الذي غَرَسه رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- في قلوبهم، هذا الإيمان الذي جعَلَ من عُبَّاد الأوثان عُبَّادًا للرحمن، وجَعَل من أهل الجاهليَّة قومًا يبيتون لربِّهم سُجَّدًا وقيامًا، وجَعَل منهم رجالًا سطَّروا أرْوَعَ صفحات التاريخ في كثيرٍ من الميادين.

عباد الله، إنَّ إيذاء المشركين لرسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه كان سببًا من أسباب هجرة النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- من مكة إلى المدينة، ولقد أُوذِي النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- كثيرًا، فصَبَر وصابَر، وتحمَّل مِن أذَى قَوْمِه ما لا يَقْدِر على تحمُّله الرجال أولو القوَّة، وظلَّ المشركون على عنادهم وكَيْدهم، فاجتمعوا في دار الندوة وعَقَدوا مؤتمر الدسيسة والغَدر، فمِن قائل بنَفْيه، ومن قائل بحَبْسه، إلى أن استقرَّ رأْيُهم على أن يختاروا من كلِّ قبيلة شابًّا جلدًا قويًّا، يُحيطون بداره، وعندما يخرج عليهم يضربونه ضربة رجلٍ واحد، فيتفرَّق دَمُه في القبائل، ولكنْ فضَحَ الله سرَّهم، وخَيَّب أمرَهم، فقال مُخاطِبًا رسولَه- صلَّى الله عليه وسلَّم-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

ثم ينزل جبريل- عليه السلام- على رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- يُخْبره أنَّ الله قد أَذِن له بالهجرة من مكة إلى المدينة.

عباد الله، لقد كانتْ هجرة النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- دَحْرًا للفساد في العقائد، والضلال في الأفكار، كما كانتْ فتحًا جديدًا في تاريخ الإنسانيَّة، ونصْرًا مُؤَزَّرًا.

ولقد علَّمتْنا العِظَات والعِبَر أنَّ الحقَّ لا بدَّ له من وطنٍ ودارٍ وأنصارٍ، وأنَّ الباطِلَ لا يُسلم القيادةَ للحقِّ في يُسْرٍ وسهولة، بل يقف عنيدًا شديدًا في وجْه الحق، يأخذ عليه الطريق، ويَسدُّ في وجهه المنافذ، ويتربَّص به الدوائر، وحينئذٍ يَحتاج الحقُّ إلى أن يلجَأَ بدعوته إلى تُرْبة خِصْبة، ودار آمنة، وأنصارٍ مؤمنين.

عباد الله، نتعلَّم من الهجرة أنَّ الشباب إذا نشئوا منذ الصغر على مواجهة الخطر، كانوا أجِلاَّء أقوياء، وهذا هو علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- ينشأ في مدرسة النبوة فتًى من فتيان الإسلام لا يخاف إلا الله، ولا يَهاب أحدًا سواه، يقول له النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- ليلة الهجرة: «نَمْ على فراشي؛ فإنه لنْ يخلصَ إليك شيءٌ تَكْرهه منهم»، فقَبِل عليٌّ التضحية فداءً لرسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- بلا خوف ولا تَردُّد.

وتُعَلِّمنا الهجرة أنَّ أعمالنا يجبُ أن تكونَ لله وفي سبيل الله، لا لغرضٍ أو تحقيق مَطْمع؛ يقول الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئ ما نَوَى، فمن كانتْ هِجْرته إلى الله ورسوله، فهِجْرتُه إلى الله ورسوله، ومَن كانتْ هجرتُه لدنيا يُصيبها أو امرأة يَنكحها، فهجرتُه إلى ما هاجَر إليه»؛ رواه البخاري ومسلم من حديث عمر- رضي الله عنه.

إخوة الإيمان، وقد عَلَّمتْنا الهجرة رعايةَ الله لعباده المخلصين؛ فهذا رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- يختبِئ مع صاحبه في الغار الليالي ذوات العدد، فلا تَحرسه أمام الغار إلا رعايةُ الله الذي ينصر عباده المخلصين؛ يقول- تعالى-: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

علَّمتْنا الهجرة أنَّ المرأة المسلمة تستطيع أن تقومَ بواجبها في المناسبات الملائمة، والظروف الموائمة، لا كما يريدها أعداءُ الله اليوم سلعةً رائجةً، فهذه أسماء بنت الصدِّيق- رضي الله عنها- كانتْ تحمل الزادَ من مكةَ إلى الغار، غيرَ خائفة من العيون والأرصاد، وشَقَّتْ نطاقَها نصفين؛ ربطتْ بأحدهما الجراب، وبالنصف الآخر فم قِربة الماء؛ فسُمِّيَتْ: "ذات النطاقين".

عَلَّمتْنا الهجرة حبَّ الوطن، فها هو رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- يخرج من مكة في سبيل الله متأثِّرًا لمفارقة وطنه، فيلتفتُ إليها ويُخاطبها خطابَ المحبِّ لها، ويقول: «والله، إنَّك لأحبُّ أرض الله إليَّ، وإنَّك لأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنَّ أهلَك أخرجوني منك ما خرجتُ»؛ رواه أحمد.

أيها المسلمون، ومن غار ثور كان المنطلَق السعيد لهذا الدِّين الجديد، وبعد سفرٍ مُضْنٍ وجُهْد شاقٍّ، وتَحمُّل قَيْظٍ لا يَرحم، تلوح للنبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- طَيبة المبارَكة، ويَستقبل أهلُها النبيَّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- استقبالًا عظيمًا؛ يقول الله- تعالى- فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

وابتدأَ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- صفحة جديدة في نشْر الدعوة؛ طابعُها التشريع والتخطيط البديع، وأملُها أن يدفَعَ عنها كَيْد الكائدين وبَطْش الحاقدين، ومن هنا كانت الهجرة بداية للكفاح الشاق.

والهجرة- يا عباد الله- من مكة إلى المدينة، لَم تكنْ فرارًا؛ بل انتصارًا، إنها نقْلٌ لساحة الجهاد من مكة إلى المدينة؛ حتى لا تتجمَّدَ مسيرةُ الحقِّ، ويَستشريَ طُغيان الباطل، ولقد ضَرَب لنا رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه المثَلَ والأُسوة الْحَسَنة في التضحية بالنفس والنفيس من أجْل نُصْرة دين الله وإيصاله إلينا، ولتكون كلمة الله هي العُليا وكلمة الذين كفروا السُّفْلى.

أسأل الله أن ينصرَ الإسلام، وأن يُعزَّ المسلمين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحْدَه، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصَحْبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له؛ الإله الحق المبين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ إمام المتقين، وخاتم المرسلين.

أمَّا بعدُ:

فأوصيكم- عباد الله- ونفسي بتقوى الله- عز وجل- وطاعته، وأُحَذِّركم من معصيته ومخالفة أمره.

عباد الله، إنَّ أسْمَى أنواع الهجرة هي الهجرة من الشرِّ إلى الخير، ومِن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن الظلام إلى النور، ولعلَّ من هذه الهجرة ما أُمِرَ به الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم- في قول ربِّه: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 3- 5].

فلنهاجِرْ إلى الله بقلوبنا؛ إلى الخير، والحبِّ، والنقاء، والرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «المهاجر: مَن هَجَر ما نَهَى الله عنه»؛ رواه البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- ويقول: «لا هِجرةَ بعد الفتْح، ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استنفرتُم فانفروا»؛ رواه البخاري، ومسلم.

ثم اعلموا أنَّ الله أمَرَكم بالصلاة والسلام على خاتم رُسله في أعظم كُتبه؛ فصلُّوا عليه.

اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلَفائه الراشدين، وأزواجه أُمَّهات المؤمنين، وبقيَّة الصحابة أجمعين، والتابعين لهم إلى يوم الدِّين.

اللهم انصرِ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرْكَ والمشركين، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم أحْصِهم عددًا، واقْتلهم بددًا، ولا تُبقِ منهم أحدًا، اللهم لا تَدَعْ لنا في هذه الساعة المبارَكة ذنبًا إلا غفَرْتَه، ولا هَمًّا إلا فَرَّجْتَه، ولا مريضًا إلا عافَيْته، ولا ضالًّا إلا هَديتَه، ولا مبتلًى إلا عافيته، اللهم احفظْ ولاة أمرنا بحِفْظك، وارزقهم البطانة الصالحة التي تُعينهم على الحقِّ يا ربَّ العالمين، اللهم اجعلْ هذا البلد آمنًا مُطْمَئِنًّا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.

اللهم اغفرْ للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

اللهم ارفعْ عنَّا الغَلاء والوَبَاء، والزلازل والْمِحَن، وسوءَ الفِتَن، ما ظَهَر منها وما بَطَن، عن بلدنا هذا خاصَّة، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا ربَّ العالمين.

اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزلْ علينا الغَيْثَ ولا تجعلْنا من القانطين، اللهم إنا نستغفرك إنَّك كنتَ غفَّارًا، فأرسل السماء علينا مِدْرارًا، اللهم اسْقِنا الغيثَ ولا تجعلْنا من القانطين، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا بلاءٍ ولا عذاب، ولا هَدْم ولا غَرق.

{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].

الكاتب: عبدالله الجار الله.

المصدر: موقع الألوكة.